مدينة الرياض
    

الكتابة كعلاج نفسي: فضفضة الحروف وتحرير الذات


الكتابة كعلاج نفسي: فضفضة الحروف وتحرير الذات

بقلم
د. تركي العيار 
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود 

في عالم يتزايد فيه القلق والتوتر وتتنوع فيه مصادر الضغوط النفسية، يبرز الفن بجميع أشكاله كأداة فعالة للمساعدة في التخفيف من المعاناة النفسية، سواء من خلال الرسم أو الموسيقى أو حتى الرقص. إلا أن من بين هذه الفنون، تظل الكتابة وسيلة علاجية متميزة، تمتاز بخصوصيتها وسهولة ممارستها، دون حاجة إلى أدوات أو تقنيات معقدة. فالكتابة ليست مجرد نشاط تعبيري، بل هي عملية علاجية أثبتت الدراسات الحديثة فاعليتها في التخفيف من أعراض الاكتئاب، والقلق، والتوتر، واضطراب ما بعد الصدمة. فالكتابة تتيح للإنسان أن يعبّر عن مشاعره بطريقة منظمة وآمنة، فهي بمنزلة "صمام أمان" يحرّر من خلاله العقل من التراكمات والأفكار السلبية التي قد تؤرقه. وعند الكتابة، لا يكون الإنسان بحاجة إلى مخاطب أو مستمع؛ بل يكفي أن يمسك بالقلم أو يفتح صفحة جديدة ليبدأ رحلة الفضفضة والبوح الذاتي. هذا النوع من التعبير الذاتي يمنح راحة نفسية تشبه تلك التي يشعر بها من يفرغ ما في صدره لصديق مقرّب، مع فارق الخصوصية والتحكم في السرد.
وقد أثبتت العديد من الدراسات أهمية الكتابة التعبيرية في تحسين الصحة النفسية. فقد أظهرت دراسة شهيرة أجراها البروفيسور جيمس بينبيكر (James Pennebaker) من جامعة تكساس، أن الأشخاص الذين كتبوا عن تجاربهم المؤلمة لمدة 15 إلى 20 دقيقة يوميًا على مدى عدة أيام، تحسنت صحتهم النفسية والجسدية، مقارنة بأولئك الذين لم يكتبوا.
وفي دراسة أخرى نُشرت في مجلة Psychosomatic Medicine عام 2005، وُجد أن المرضى الذين مارسوا الكتابة التعبيرية قبل الخضوع لجراحة طبية تعافوا بشكل أسرع واحتاجوا إلى عدد أقل من زيارات الطبيب. كما أظهرت دراسة أخرى أن الكتابة تقلل من أعراض القلق والاكتئاب، وتحسّن جودة النوم والمزاج العام. إضافة إلى كونها وسيلة علاجية، تمنح الكتابة الفرد فرصة لفهم ذاته بشكل أعمق، من خلال إعادة قراءة ما كتبه والتأمل في دوافعه ومشاعره. كما أن الكتابة تعزز الإحساس بالسيطرة على الأمور، وتساعد على ترتيب الأولويات، وتحفّز التفكير الإيجابي، وتُسهم في اتخاذ قرارات أفضل.
أدخل العديد من الأطباء النفسيين والمعالجين الكتابة كجزء من برامج العلاج النفسي، تحت ما يسمى بـ"العلاج بالكتابة" (Writing Therapy أو Journal Therapy). وتتنوع التطبيقات بين كتابة المذكرات اليومية، أو رسائل موجّهة (دون إرسالها)، أو كتابة القصص الشخصية، وحتى كتابة الشعر.
كما بدأت بعض العيادات والمراكز النفسية في السعودية والعالم العربي بتبني هذا النهج، خاصة مع تزايد الوعي بالصحة النفسية وارتباطها بجودة الحياة.
كما تبيّن فاعلية الرسم والموسيقى في تخفيف التوتر وإدارة الصدمات النفسية، فإن الكتابة تقدم ميزة إضافية: الوضوح والتحليل. ففي حين تلامس الموسيقى العاطفة والرسم الخيال، فإن الكتابة تتعامل مباشرة مع العقل والمنطق والعاطفة معًا، فتقدم مزيجًا متكاملًا من التنفيس والتحليل والمعالجة

الكتابة والإعلاميون: علاقة مهنية ونفسية

تأخذ الكتابة بعدًا خاصًا حين ترتبط بالإعلام والإعلاميين، فهؤلاء يعيشون يوميًا وسط أحداث متسارعة ومواقف إنسانية قد تكون مؤلمة أو مرهقة. وبقدر ما تُستخدم الكتابة في عملهم لنقل الأخبار وصناعة المحتوى، فإنها يمكن أن تكون كذلك وسيلة تنفيس نفسي ومجالًا للتفريغ الذاتي. فالإعلامي المعتاد على الكتابة المهنية قد يجد في الكتابة الذاتية نوعًا من “التطهير النفسي” بعيدًا عن ضغوط العمل وتحدياته الأخلاقية والمهنية. كما أن ممارسة الكتابة التأملية أو الشخصية تساعد الإعلاميين على إعادة التوازن بين هويتهم المهنية وذواتهم الخاصة، وتعزز قدرتهم على مقاومة الاحتراق الوظيفي، وتنمية الوعي الذاتي، وتصفية الذهن من التشويش الناتج عن الكم الهائل من المعلومات والانفعالات التي يتعاملون معها

ختاما، اقول دع القلم يتحدث عنك في زمن تزداد فيه العزلة ويقلّ فيه الحوار الصادق، تصبح الكتابة ملاذًا آمنًا ومتنفسًا شافيًا. قد لا تعالج الكتابة كل شيء، لكنها تمنحنا بداية الطريق نحو السلام الداخلي، وتساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا.
ولعل أجمل ما في الكتابة أنها مجانية، لا تحتاج سوى ورقة وقلم… وقلب صادق.
الكتابة كعلاج نفسي: فضفضة الحروف وتحرير الذات